الأحد، 28 سبتمبر 2014

أميرة الدماء

كانت جميلة و هادئة.. وكما يقولون: بنت ناس.
تعرفنا فى حفل زفاف كالعادة، وكانت ترتدى يومها فستانا أسود كلون الليل، تناسب تماما مع شعرها الفاحم. إن اللون الأسود يمتلك طاقة رهيبة لا تقاوم.

أحببت لونها الشاحب. دوما ما أحببت الفتيات الرقيقات كأنهن صنعن من البللور. يمكنك فعلا إن دققت النظر أن ترى من خلال كتفيها الدقيقين الطافيين بين سواد شعرها وردائها. لابد أنها تمتلك أنقى روح فى العالم.

 وبالرغم من مظهرها الهادئ كانت عيناها تمتلئان دلالا مهيبا. هذا الدلال القادر على هدم العالم كله لو أغمضت أهدابها بقوة كافية. هذا الدلال الصاخب المجنون الذى يلتمع كألف نجمة فى مقلتيها.

لذلك لم أفكر كثيرا عندما طلبت منى أن نتعرف أكثر. وعندما خرجت معها مسحورا إلى هذه الشرفة المنعزلة بأعلى قاعة الأفراح كنت أمنى نفسى بحوار طويل مشوق. لابد أن هذه الشفاة الرقيقة ستنطق فتتساقط الورود من حولنا، ولابد أن ابتسامتها ستجعل قلبى يغفل عن دقة أو دقتين.
 

ما أن أصبحنا وحدنا تماما حتى أربكتنى جرأتها. إقتربت منى أكثر من المتوقع. شيء ما فى مشيتها البطيئة الواثقة، شيء ما فى تتابع حركة ساقيها الرشيقتين، شيء ما فى تمايل جسدها المرهف المحاصر بالفستان الأسود، شيء ما جعلنى أتجمد تماما فى مكانى. . هل خدعنى مظهرها الملائكى عن حقيقة هدفها المتوارى بين طوايا الغرائز البدائية؟
 

مررت أصابعها المرمرية على وجهى بهدوء، فسرت رعدة كالكهرباء فى أوصالى. هذه العيون الواسعة تملكنى بالكامل. تهت تماما فى بحر النجوم التى تسكن عينيها. تسارعت أنفاسى وشعرت بنبضات قلبى تدوى فى أذنى وهى تقترب منى أكثر.

قربت شفتيها من أذنى وهَمَسَت بهدوء: نعم. هكذا تماما. دع الدماء الساخنة تتدفق بقوة يا أميرى. دع هذه الأوردة تنبض بالحياة لآخر مرة.

ألصقت شفتيها برقبتى.. وأخترق ناباها العاجيان أوردتى.. وبدأ عالمى يتغير.

بهدوء تام بدأ الدم يتدفق من أوردتى إلي شفتيها الورديتين.. ومعه ينسحب الواقع رويدا رويدا. لا أظن أن مخدرا ما أيا كانت قوته قادر على أن يعطيك مثل هذا الشعور الرائع الممتع بالخواء و الهدوء و السكينة.

إن قدمىَّ لا تلمسان الأرض اللآن يقينا. نحن نطفوا كالأطياف. كالأرواح الهائمة. ذراعاها الرقيقتان تحيطان بخصرى وظهرى وتشدنى إليها كدمية عملاقة لا تقوى على المقاومة. تحتضننى فينضغط جسدانا كأنهما خلقا ليندمجا، ويتطاير شعرها الطويل فى النسيم الرقيق الذى يلفنا، فيزيدها بهاء وروعة.

النجوم فى الأعلى تلتمع كما لم تفعل من قبل.. البريق أجبرنى على أن أغمض عينى.. ومن خلف جفني المغلقين رأيت حياة ليست كأى حياة.

عاش العشاق وماتوا ولم يعرف أى منهم ما الحب. الحب هو أن تكون بين ذراعيها الآن. الحب أن تحلق فى الفضاء فلا تعبأ فى أى أرض تحطك النسائم. الحب هو أن تنظر إلى هاته العينين فتغرق ولا تأبه إن كنت تطفو أبدا يوما.

همست من بين طيات نشوتى الحالمة: أرجوك لا تتوقفى. أرجوك.

لا أدرى كم طال الوقت بعدها، لكنها توقفت. قدماى لمستا الأرض مرة أخرى لكنهما لم تقويا على حملى، فأرقدتنى أميرتى على الأرض بهدوء وتنهدت تنهيدة من أعماقها حملت عبير أزهار الأرض كلها، ثم قالت وهى تمسح قطرات الدماء عن شفتيها: لابد أن أتوقف وإلا قتلتك. نحن معا للأبد الآن. لا تجزع. نوما ستنام، ثم حياة ستحيا، وأبدا سنبقى يا أميرى.

ثم مالت على أذنى وسمعت همستها تدوى فى رأسى قبل أن أغرق فى النوم الممتع:
أحبك يا أميرى.


الأربعاء، 17 سبتمبر 2014

UWK


فى الظلام..
تتعلم أن تصمت.. تتعلم أن تسمع.
تتعلم أن تحصى خطوات الأقدام خارج الزنزانة.
تتعلم أن تهلع حين تتوقف الخطوات أمام باب زنزانتك أنت.
عندما يملأ الوجه المسود البغيض الفتحة الوحيدة التى يدخل منها النور.
وقتها تصلى فى صمت أن تخطئك عين الشيطان، وألا يكون اليوم يومك.
***
فى البداية كنا  نتحداهم.. يشد بعضنا أزر بعض.. كنا نضحك متناسين الواقع.. نحن فى السجن فعلا لكن وَعْيُنا يرفض التأقلم مع الفكرة.. كنا جميعا نوقن بداخلنا أن الأمر لن يطول.. لن يضيع مستقبلنا هنا فى هذه السراديب المظلمة.. لن تذوى أحلامنا بين جوانبنا بينما ننتظر مرور الأيام الثقيلة..
هذه الأشياء تحدث للآخرين فقط..
***
فى الظلام تتعلم..
تتعلم أن تصمت..
تتعلم أن تسمع..
تتعلم أن تهلع..
تتعلم أن تبكى، حتى تنضب عيناك فلا تدمع..
***
لابد أن العالم صامت تماما بالخارج.. لابد أن كل شيء هادئ إلى درجة لا تطاق.. لا يمكن أن تستمر الحياة بنفس صخبها وضجيجها من دون أن نملأها  نحن صخبا.. من غيرنا يغنى للحياة؟ من غيرنا يقض مضاجع الحكام وعبيد الأمر؟ من غيرنا يصرخ حتى لا تنام الدنيا بثقلها على أجساد الحفاة العراة؟
نحن لًحنُ الحياة، ولا حياة بدوننا..
***
الظلام هنا لا يشبع..
ظلام يطبق على أحشائك..
ظلام يسحق العظام و الأحلام..
ظلام تستوى فيه اللحظات والأيام..
ظلام بكرٌ..
ظلام خام..
***
مع الوقت تفكر فى من تركتهم بالخارج.. أم هم تركوك؟.. الفارق ضئيل فى هذه الظروف.. تفكر كيف أنهم يعيشون بشكل شبه طبيعى.. هل ترك رحيلك القسرى فجوة ما فى حياتهم؟.. هل يأكلون وينامون وربما حتى يمرحون بدونك؟.. هل تستطيع أن تلومهم حقا؟.. عندها تتضح لك الحقيقة..
إن الحياة تستمر..
***
فى الظلام..
كل الرؤوس سواء..
أطفال وكهول..
كل منا على ذمة قضية..
أىُ قضية..
قطع طريق وافتراء..
حتى الصبى النحيل ذو النظرة الصماء..
كتبوا له محضرَ ضربٍ.. واعتداء..
***
تسأل نفسك.. ما الطائل من وراء صمودنا؟.. الناس يعيشون لأنهم يريدون الحياة.. هذا بلد لا يهتم فيه الناس بجودة ما هو موجود طالما أنه موجود وكفى.. إنهم يخافون العوز ويشجعون الرداءة.. نقاتل نحن من أجل قضية لا تعنيهم حقا فى شيء.. الحرية.. التعددية.. الكفاءة.. إننا فعلا أوغاد رائقوا البال..
نحن لا نصنع فرقا..
***
مع الوقت تعلمنا ألا نقاوم.. لأن المقاومة تؤلم فعلا.. لا جدوى من الإصرار على الإنكار كما يقولون.. نحن لم نفعل شيئا أكثر من المطالبة بحقوق نراها لنا.. لكننا فى الواقع مذنبون بما هو أكثر.. نحن مذنبون ربما لأننا كنا صاخبين أكثر مما يجب.. أو لأننا كنا صادقين أكثر مما يجب.. أو ربما لأننا لم ندفن رؤوسنا فى الرمال، عندما أطلقوا الرصاص على الرؤوس..
مذنبون لأننا قاومنا ..
قاومنا أكثر مما يجب..
***


#الحرية_لعادل_عنتر

الخميس، 4 سبتمبر 2014

مأساتى


وتبقى مأساتى.. أننى نصفُ كلِ شيء..
نصف حالم..
نصف عالم..
نصف ثائر..
نصف داعر..
نصف عابد..
نصف زاهد..
نصف زوج..
و نصف أب..
لا شيء عندى يكتمل..

***

أنا نجم فى السماء لا يلمَع..
أنا منبر بالحق لا يصدَع..
أنا سيف فى يد الفرسان يزهو..
لكنه.. فى الهَيجِ لا يقطَع..

***

أنا الموت بلا ابتداء..
أنا الحب يُلجمه الحياء..
أنا الفراغ السرمدى أتمدد..
فى حدود يرسمها الفَنَاء..
أنا الزائر المقيم قهرا..
أنا الحُلول.. والاختفاء..

***

أنا النصف الأبدى..
لا يكتمل عندى ما ينفَع..
لهذا لا ترانى مُطلقا أُبدع..
حتى بالشِعر لا أُمتع..
أتلصص على الحياة من بعيد..
أستكشف كل يوم شيئا جديدا..
ثم أعود عنه ولا أرجِع..
زهرة على الحائط..
غريبة فى تفردها..
سقيمة فى تعاليها..
زهرة تحكى فى اليوم ألف قصيدة..
لكنها من فرط خفتها..
نادرا ما تُرى..
و أبدا لا تُسمع..
***